**ظلال الياسمين: سر الشيخ إبراهيم**
اسمي ليلى، وعلى عتبات ربيعي الثاني عشر، كانت
ذاكرتي لا تزال تحتفظ بنقاوة الطفولة، مرسومة بألوان قريتنا الوادعة، "قرية
الياسمين".
![]() |
**ظلال الياسمين: سر الشيخ إبراهيم** |
اسمٌ لم يكن مجرد تسمية، بل
كان عطراً يملأ الهواء، ووعداً بحياة هادئة تنساب كجدول ماء رقراق بين حقول القمح
الذهبية وبساتين الزيتون العتيقة. هنا، حيث تتشابك أغصان الأشجار كأذرع تحتضن
البيوت الطينية المتواضعة، وحيث يعرف الجميع بعضهم البعض بأسمائهم وقصصهم، شعرتُ
بأنني جزءٌ من نسيجٍ دافئ ومترابط.
كانت حياتي سيمفونية بسيطة ولكنها متناغمة.
أبي، رجل الأرض الصبور، الذي تشهد تجاعيد وجهه على عناقه الطويل للشمس والتراب، يعود كل مساء محملاً برائحة الحصاد والتعب النبيل. وأمي، نبع الحنان الذي لا ينضب، كانت شمس بيتنا، تضيء أيامي بابتسامتها وتغمرني بدفءٍ خاص
- حتى أنني كنت أتساءل أحيانًا في سري إن كانت خيوط حبها لي منسوجة بخيطٍ ذهبي إضافي مقارنة
- بإخوتي. كانت أمينة، شقيقتي الكبرى التي بلغت ربيعها السابع عشر، تمثل لي مزيجاً من الصديقة
- والمرشدة، بضحكاتها الرنانة ونصائحها التي تبدو حكيمة بالنسبة لسني. أما شقيقاي، كريم ذو الأربعة
- عشر عاماً، وعمر، صغيرنا ذو التسعة أعوام، فكانا مصدر الضجيج والمرح، تملأ مشاكساتهما أركان
- المنزل بالحياة.
وفي قلب هذا البيت، كان هناك وجودٌ مهيب وهادئ، يمثله جدي وجدتي. جدتي، بصوتها الدافئ وحكاياتها القديمة.
كانت تمثل جذورنا
الممتدة في أرض القرية. أما جدي، الشيخ إبراهيم، فكان له مكانة خاصة، لا في قلبي
فحسب، بل في قلوب أهل القرية جميعاً. بوجهه الذي نحتته السنون بحكمة ووقار، ولحيته
البيضاء التي تشبه غيمة صيف، وعينيه اللتين تلمعان بذكاءٍ هادئ، كان يبدو كأنه
حارس التقاليد والمعرفة. كان عطوفاً معي بشكلٍ لافت، يقص عليّ قصص الأجداد، يعلمني
أسماء الطيور، ويشاركني قطع الفاكهة من بستانه الصغير. كنتُ أرى فيه صورة الجد المثالي،
الملاذ الآمن الذي ألجأ إليه دائماً.
لكن الصفاء، مهما طال
لا بد أن تعكره أحياناً غيومٌ قادمة من المجهول. بدأت تلك الغيوم تتجمع في سماء قريتنا الهادئة قبل عامٍ مضى. أحداثٌ غريبة، مقلقة، بدأت تتسلل إلى حياة الناس كسمٍ بطيء المفعول. لم تكن مجرد مصادفات عابرة، بل نمطٌ مخيف بدأ يتشكل. نستيقظ ذات صباح لنجد أن جارنا الطيب، أبو صالح، الذي كان يشتهر بضحكته المجَلجِلة.
- قد فقد عقله بين ليلة وضحاها، يهيم في الدروب محدثاً نفسه بكلمات غير مفهومة. ثم نسمع أن زوجة
- فلان، الشابة التي كانت تحلم بالأمومة، قد أخبرها حكيم القرية بأن رحمها قد أصابه العقم فجأة ولن
- تحمل أبداً. أصابت الماشية أمراضٌ فتكت بها، وجفت بعض الآبار دون سبب واضح. في البداية،
- همس الناس بأنها أقدار الله، وتنهدوا مستسلمين، لكن مع تكرار المصائب وتنوعها، بدأ الخوف يتسلل
- إلى القلوب، ونبتت بذرة الشك في أرض اليقين. بدأت الأحاديث الخافتة تدور في مجالس المساء،
- تساؤلاتٌ حائرة عن سبب حلول هذه الغمة على قريتنا المسالمة.
في ليلةٍ مقمرة من ليالي الصيف الحارة
استيقظتُ عطشى قبيل أذان الفجر بساعة تقريباً. سرتُ على أطراف أصابعي في ردهة البيت المظلمة، متجهةً نحو المطبخ. وبينما أمرُّ قرب النافذة المطلة على فناء المنزل الخلفي، لاحظتُ شيئاً غريباً: باب "الزريبة" (حظيرة الحيوانات والمخزن الصغير) كان موارباً، وينبعث منه خيط رفيع من ضوء فانوس خافت. تسارع نبضي، وخالجني شعورٌ بالقلق. هل تسلل لصٌ إلى ممتلكاتنا المتواضعة؟ أم أن حيواناً قد أفلت من حظيرته؟
دفعتني غريزة الحذر ممزوجة بالفضول إلى الاقتراب بخطى بطيئة، محاولةً ألا أُصدر صوتاً.
- كلما اقتربت، بدأت أميز همساتٍ خافتة، حديثاً يدور في الداخل. تجمدتُ مكاني خلف شجيرة ليمون
- قريبة، وأرهفتُ السمع. تعرفتُ على الفور على صوت جدي، الشيخ إبراهيم، لكن نبرته كانت مختلفة
- ، فيها حدةٌ وتوتر لم أعهدهما من قبل. كان يتحدث إلى شخصٍ آخر، صوته أجش وغير مألوف. لم
- أتمكن من التقاط كل الكلمات بسبب الحذر والمسافة، لكنني سمعت بوضوح اسم أحد رجال القرية،
رجلٌ
يُعرف باستقامته وطيب معشره. ثم سمعتُ كلمات متقطعة عن "ترتيب الأمر"، "ليلة
اكتمال القمر"، "أثر من ملابسه". كان الشخص الآخر ملفوفاً بعباءة
داكنة ويغطي وجهه بـ"لثام"، مما زاد من غرابة المشهد وإحساسي بالخطر. بدا
الرجل وكأنه شبحٌ هارب من الظلام، يتلقى تعليمات سرية من جدي.
بعد دقائق قليلة، انتهى الحديث المقتضب. رأيتُ
الرجل الغريب ينسل خارجاً من الزريبة بسرعة ويختفي في أزقة القرية المظلمة. أغلق
جدي الباب بعناية، وأطفأ الفانوس، وعاد إلى المنزل بخطى هادئة، وكأن شيئاً لم يكن.
عدتُ إلى فراشي مرتجفة، ليس من برد الفجر، بل من الصدمة والارتباك. لم يغمض لي
جفنٌ تلك الليلة. الصورة التي رسمتها لجدي في مخيلتي بدأت تتصدع. من هو ذلك الرجل
الغامض؟ ولماذا يتحدث جدي بهذه الطريقة السرية عن أحد جيراننا؟ هل لما رأيته علاقة
بالمصائب التي حلت بالقرية مؤخراً؟ كانت الأسئلة تتراقص في عقلي كالأشباح.
منذ تلك الليلة، لم أعد أنظر إلى جدي بنفس الطريقة. بدأت أراقبه بحذر، ألاحظ نظراته، كلماته، تحركاته. كما بدأت أتابع أخبار الرجل الذي ذُكر اسمه في تلك المحادثة المشؤومة. كان الفضول والخوف يتصارعان في داخلي. مرت ثلاثة أيام ثقيلة، وفي اليوم الرابع، وقع ما كنت أخشاه. انتشر الخبر في القرية كالنار في الهشيم.
الرجل الذي سمعتُ جدي يتحدث عنه، أصيب بمرضٍ مفاجئ وغريب. بدأ بصداعٍ حاد
ثم تدهورت حالته بسرعة، وفقد بصره خلال ساعات قليلة. لم يتمكن
حكيم القرية ولا الأطباء في المدينة المجاورة من تشخيص حالته أو إيجاد علاج له. أجمعوا
على أن مرضه عضال، وأن أيامه في هذه الدنيا باتت معدودة.
عندما سمعتُ الخبر، شعرتُ ببرودة تسري في عروقي.
لم يعد لديّ أدنى شك. الصورة اكتملت في ذهني بشكلٍ مرعب. جدي، الشيخ إبراهيم،
الرجل الوقور الذي أحببته واحترمته، كان متورطاً في أمرٍ مظلم يتجاوز فهمي. اليقين
كان مؤلماً، لكنه كان واضحاً كالشمس. لم أجرؤ على مصارحته، فمن سيصدق طفلة تتهم
جدها، شيخ القرية، بمثل هذه الأمور؟
لكن فضولي لم يمت، بل تحول إلى حاجةٍ ماسة لفهم الحقيقة كاملة. واصلتُ مراقبته خلسة. وبعد أسابيع قليلة، وفي ليلة أخرى، تكرر المشهد، ولكن هذه المرة كانت زائرة جدي امرأة من القرية، أعرفها جيداً، تشتهر بحسدها لجارتها. اختبأتُ في مكاني المعتاد خلف الشجيرة، وهذه المرة كان الصوت
أوضح، والحديث أكثر تفصيلاً. سمعتُ المرأة تتوسل إلى جدي أن "يربط" حظ
جارتها، وأن يجعلها طريحة الفراش. وسمعتُ جدي يطلب منها مبلغاً كبيراً من المال
ووعدها بأن "الأمر سيتم خلال يومين". ثم رأيتها تدس صرة نقود في يده
وتغادر متلفتة حولها.
كانت تلك هي القشة التي قصمت ظهر البعير.
الحقيقة
كانت أمامي، عارية وقبيحة: جدي يمارس السحر الأسود، يؤذي الناس مقابل المال،
ويختبئ خلف قناع الطيبة والوقار. شعرتُ بالغثيان والخيانة. لم يكن جدي مجرد رجل
سيء، بل كان هو مصدر الوباء الذي حل بقريتنا، قرية الياسمين البريئة.
لم يدم سر جدي طويلاً بعد ذلك. ربما لاحظ آخرون سلوكه المريب، ربما تحدثت إحدى ضحاياه قبل أن يسكتها المرض أو الجنون، أو ربما وشى به أحد زبائنه بعد خلاف. لا أعرف كيف انكشف الأمر بالضبط، لكنه انكشف. انتشرت الحقيقة كالصاعقة في أنحاء القرية.
- تحولت نظرات الاحترام إلى نظرات ازدراء، وتحول الهمس إلى اتهامات صريحة. عقد شيوخ القرية
- مجلساً طارئاً، وواجهوا جدي بما عرفوه. لم ينكر، بل وقف صامتاً، والعهار يجلل وجهه. كان القرار
- سريعاً وحاسماً: الطرد. ليس جدي وحده، بل عائلتنا بأكملها. كان العار أعظم من أن تتحمله القرية،
- وكان الخوف من
استمرار أذاه أقوى من أي شفقة.
كان يوم رحيلنا أقسى أيام حياتي.
حزمنا أمتعتنا
القليلة على عجل، تحت نظرات أهل القرية الصامتة والباردة. لم تكن هناك كلمات وداع،
فقط عيونٌ تحمل مزيجاً من الغضب والخوف والشفقة. فقدتُ منزلي، مدرستي، حقول
الياسمين التي شهدت طفولتي، أصدقائي الذين تقاسمت معهم أسراري وضحكاتي. تحولنا في
غمضة عين من عائلة محترمة إلى منبوذين، يحملون وصمة عارٍ سببها جدي.
استقر بنا المطاف في قرية نائية، "قرية
الغربة"، تبعد مسافات شاسعة عن ماضينا. الحياة هنا مختلفة، غريبة، باردة. التحقتُ
بمدرسة جديدة، وبدأتُ في تكوين صداقاتٍ بحذر، أحمل سري الثقيل في قلبي كحجر. جدي
يعيش معنا، شبحٌ صامت في زاويته، يظهر الندم على وجهه أحياناً، لكن هذا الندم لا
يمحو الأذى الذي سببه، ولا يعيد لنا حياتنا المسلوبة. العلاقة بيننا وبينه باتت
يشوبها الفتور والحذر، فكلما نظرنا إليه، تذكرنا سبب اقتلاعنا من جنتنا المفقودة.
أنا الآن أكبر قليلاً، وأكثر فهماً لتعقيدات
الحياة وظلالها القاتمة. لقد تعلمتُ بالطريقة الصعبة أن الوجوه قد تخفي خلفها
أقنعة، وأن أشد الناس قرباً قد يحملون في دواخلهم أسراراً مظلمة. ورغم أنني أحاول
بناء حياة جديدة هنا في قرية الغربة، إلا أن طيف قرية الياسمين، وذكرى جدي، الشيخ
إبراهيم، الذي كان يوماً بطلاً في عيني قبل أن يتحول إلى ساحر القرية، يظل يطاردني،
مذكراً إياي بأن بعض الجروح لا تندمل أبداً.